السعادة في العطاء

secny

:: Lv1 ::
8 مارس 2021
14
3
3
الجنس
ذكر
العطاء كلمة تحوي كل معاني السخاء والحب والرضا لأصحاب القلوب الطيبة والساعين إلى السعادة الأبدية. فالعطاء يعني بأن تعطي وتهدي من كل ما تملكه من حب وتقدير ورعاية وعلم ومال من دون مقابل، إلى من يحتاجونه ويسعدون به، فيأتي لك بأضعاف ذلك من السعادة والشعور بالرضى والفخر وراحة البال والصحة والأمان مما تخاف. فتلك الغايات لا يمكن الوصول إليها بمجرد امتلاك المال والجاه والشهرة والنفوذ. بل تتحقق بإشراك الآخرين في النعم، وتنفع به الناس وتخدم به العباد والبلاد.

لماذا نعطي؟

إن للعطاء نكهة روحية وإيمانية، فتعطي اللذة الحقيقية لكل ما تملكه في الحياة، ويسمو بها القلب والروح، فتأتي بالسعادة الحقيقية والأبدية لصاحب العطاء. ومن أعطى، يعطي معنى وجمالا للغنى والجاه والمعرفة، مما يشعرك بلذة نعم الله تعالى في الحياة ليس بعدها لذة. ويقول ابن القيم رحمه الله: “إن في قضاء حوائج الناس لذة لا يعرفها إلا من جربها، فافعل الخير مهما استصغرته، فإنك لا تدري أي حسنة تدخلك الجنة”.وعلميا ثبت أن العطاء يؤدي إلى الشعور بالسعادة نتيجة إفراز مادة الدوبامين في الدماغ التي تفرز مع الشعور بالفرح والنشوة.

فضلا عن ذلك، فإن العطاء الإنساني متناغم مع القانون الكوني للأخذ والعطاء كما يقول ديباك شوبرا: “الكون يعمل وفقا لتبادل ديناميكي مستمر في الأخذ والعطاء، ونحن عندما نبدي الاستعداد الدائم لنعطي ما نطمح للحصول عليه، فنحن بذلك نعمل على إبقاء الوفرة الكونية جارية في مسارها الطبيعي”. فإذا ما تمعنا في الكون وما تحويه من كائنات، نرى بوضوح أن هناك تبادلا في الأخذ والعطاء بين هذه الكائنات، ونحن بتقديم العطاء نتحرك بصورة متناسقة مع هذا القانون الرباني.

علاوة على ذلك، فإن العطاء ينشر الخير والسلام والتعاون بين الناس، ويوطد أواصر المحبة بين القلوب، ويساهم في تفاؤل الناس بوجود الخيرين على الأرض، مما يؤدي إلى تقوية العلاقات الإنسانية، والتقليل من المشاعر السلبية التي تهدد الروابط الاجتماعية كالإنانية والحسد والغيرة بين أبناء المجتمع الواحد. فالعطاء ثمرة التفكير في الآخرين والتعاطف معهم، والشعور بآلامهم، مما يجعلنا نصل إلى مرتبة الإنسانية التي قد لا يصل إليها جميع البشر.

ماذا نعطي؟

إن العطاء ليس مقصورا على الأثرياء، بل هو باب عمل مفتوح على مصراعيه لكل إنسان، سواء كان غنيا أو فقيرا، كبيرا أو صغيرا، رجلا كان أو إمرأة، في كل وقت وفي كل مكان، بما تملكه من مشاعر وعواطف ومعارف ومهارات وقدرات عقلية وجسدية ومالية، فليس هناك إنسان لم يؤت شيئا من هذه النعم. فباب العطاء واسع، فقد يكون بالعفو عمن ظلمك، والتجاوز عمن أساء إليك، وصلة من قطعك، وقبول عذر المعتذرين، وقد يكون بتقديم إبتسامة جميلة، أو كلمة طيبة، أو علم نافع، أو رعاية حنونة، أو نظرة عطوفة، أو مسح على رأس يتيم، أو صدقة جارية، أو إغاثة عاجلة. وكذلك من العطاء أن تساعد كفيفا، أوتزرع شجرا، أوتسقي حيوانا، أو تزيل حجرا، أو تنشر كتابا، أو تصنع آلة تساعد الناس، وترفع عنهم الكربة. فأبواب الخير والعطاء كثيرة، فكل ما يسعد قلب إنسان يدخل في دائرة العطاء، ولا يعجز عن تقديمه أي إنسان.

فلا يخفى على أحد عطاءات أولئك المانحين والمحسنين وإنفاقهم السخي على المهجرين واليتامى والأرامل والفقراء والمحتاجين والمرضى، وما يخفف عنهم من آلام وجوع ومرض، وكم من الفرح يدخل نفوس هؤلاء بسبب هذه العطاءات السخية والرعاية الدائمة، فالله هو وحده يجزي الإحسان، والله يحب المحسنين.

وكذلك مساعدة العاطلين على إيجاد عمل، أو تدريب الخريجين من الشباب على تعلم كيفية البحث عن العمل وإيجاد فرصه وضمان لقمة عيشهم بأيديهم، وإنقاذهم من البطالة أو التسول أو اللجوء الى أمور غير شرعية.بدل أن تعطي الفقير سمكة قدّم له صنارة صيد وعلمه مهارة الصيد. وعندما تساعد الشباب على الزواج وبناء حياة كريمة. كل هذا يعيد الأمل إلى نفوس الشباب، وتدخل الفرحة والابتسامة إلى عوائل بأكملها.

أولى الناس بالعطاء

على الإنسان أن يبدأ بنفسه وأهله بما يمكِّنه من نفع الآخرين به. فالأولوية للإنسان أن يرحم نفسه ويعطف عليها ويتصدق لها بالوقت والجهد والمال والرعاية والراحة. ففاقد الشيء لا يعطيه. عليك أن تعطي نفسك الاهتمام والتركيز على العادات الجيدة وترك العادات السيئة، وإدارة وقتك بإتقان، وتعطي جسدك النوم والراحة الكافية، والغذاء الصحي ورياضة بدنية، وتغذي عقلك بالعلم النافع والتعليم المستمر، وتطور نفسك بالمهارات الضرورية والخبرات العملية التي ترتقي بها في حياتك وعملك، وتخطط لنفسك بما يوصلك إلى الأهداف الكبيرة والغايات النبيلة.

ومن العطاء الواجب بعد النفس، عندما يكون مع الأسرة، وبصورة خاصة مع الوالدين أو بين الزوجين. فالإنسان يستطيع أن يكرم نفسه ويسعدها بالعطاء مع الوالدين، بخدمتهم ومساعدتهم واحترامهم وحبهم والاستماع لهم والتحدث معهم بأدب،مما يشعرهم بالراحة والأمان ويصرف عليهم إذا احتاجوا ذلك، وإن يعالجهم إذا مرضوا، ويصبر إذا ساء مزاجهم أو تعاملهم.

وكذلك عطاء الزوج والزوجة، أن يتحمل أحدهما الآخر في حال المرض والنقص في الأموال والأولاد، والاستمرار في تبادل الحب والاحترام والرعاية والنفقة والصبر في الشدة والرخاء، وتقديم التضحيات. وكذلك من أفضل العطاء، أن تساعد الأولاد والبنات في تجاوز ضعفهم والاعتماد على نفسهم، وإكمال دراساتهم ومساعدتهم في بناء حياتهم الأسرية، وتوجيههم نحو النجاح في أمورهم الدنيوية والأخروية.

إن هذه الممارسات الواجبة تجاه النفس والأهل، بمثابة إعداد النفس لبذل العطاء والتضحية من أجل الآخرين، فمن يستطيع أن يغير نفسه يستطيع أن يغير العالم، ويستطيع أن يقدم عطاءات أكثر من غيره، وينفع الآخرين بفاعلية وجودة لا نظير لها.

بين الأخذ والعطاء

إن الذين يعطون ويتصدقون ينمو ثرواتهم أضعافا مضاعفة، كما وعدنا ربنا سبحانه وتعالى في قوله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة). وعلينا أن نداوم على العطاء ولو كان قليلاً؛ فقليل دائم خير من كثير منقطع. ويقول ابن القيم رحمه الله: “ربما تنام وعشرات الدعوات ترفع لك، من فقير أعنته أو جائع أطعمته، أو حزين أسعدته أو مكروب نفّست عنه، فلا تستهن بفعل الخير”.

فالعطاء لا يكون مشروطا، ويجب أن يكون لمن تحب أو لا تحب، فالله سبحانه لم يجعل عطاءه في الدنيا مشروطا ولا ممنوعا عن أحد. ونحن لا نعطي لأن المقابل محتاج لهذا العطاء فقط، بل نعطي لأننا بحاجة الى السعادة والطمأنينة التي نحصل عليها من وراء هذا العطاء. وكذلك يكون العطاء سلبيا أو عقيما، ولن يأتي لك بالسعادة والثواب إذا انتظرت أن تأخذ أجره من البشر، أو قمت به من أجل بناء الشهرة، أو أبطلت مفعوله بالمن والأذى.

وفي النهاية، فإن من يريد أن يكون ثريا فليقدم العطاء ويتصدق مما يملك من نِعَم. ومن يريد النجاح والسعادة وراحة البال، فليحاول إسعاد قلوب الآخرين ويخفف همومهم وأحزانهم. فحينها ترى فعلاً أن العطاء يأتي لك بالسعادة الحقيقية والرضا الدائم في الحياة.